سورة البقرة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بالمؤمنين وما لهم جريًا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على {وَإِن كُنتُمْ} [البقرة: 23] إلى {أُعِدَّتْ} [البقرة: 24] أو على {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} [البقرة: 24] الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وادعى لتلائم النظم لأن {ياأيها الناس اعبدوا} [البقرة: 21] خطاب عام يشمل الفريقين {وَإِن كُنتُمْ} [البقرة: 23] إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار {وَبَشّرِ} إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم. وقيل عطف على {فاتقوا} [البقرة: 24] وتغاير المخاطبين لا يضر ك {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى} [يوسف: 29] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن اتقوا إنذار وتخويف للكفار {وَبَشّرِ} تبشيرًا للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم استيجاب منكره العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء {فآمنوا} محذوفًا والمذكور قائم مقامه؛ فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة. واختار صاحب الإيضاح عطفه على أنذر مقدرًا بعد جملة {أُعِدَّتْ} وقيل: عطف على قل قبل {وَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} وتقديره قبل {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} [البقرة: 21] يحوج إلى إجراء {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة بالكسر والضم اسم من بشر بشرًا وبشورًا وتفتح الباء فتكون عنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا، والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرئ بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدًا كان فعل فيه مغنيًا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المختبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقًا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنًا أو سرورًا وكثر استعماله في الخير، وصححه في البحر.
{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعًا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيمًا لشأنهم وإيذانًا تامًا فإنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: {مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله عليه وسلم وبهم ما لا يخفى.
وقرأ زيد بن علي {وبشر} مبنيًا للمفعول وهو معطوف على {أُعِدَّتْ} [البقرة: 24] كما اشتهر، وقيل: إنه خبر معنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفًا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلًا مفيدًا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق {ءامَنُواْ} مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، و{ الصالحات} جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحًا وصلاحًا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسمًا وأل فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلًا أو عمل عملًا واحدًا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرًا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلًا كان أو كثيرًا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعًا في المشهور كركب القوم دوابهم إذ قد يطلق أيضًا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم ومنه: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع.
{أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار} أراد سبحانه: {بِأَنَّ لَهُمُ} إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع أنّ، وأن بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو قتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلًا وكرمًا لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة في الأصل المرة من الجن بالفتح مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى عنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددًا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسر للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك {إِنَّ لَنَا لاجْرًا} [الأعراف: 113] وتحت ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل من تحت أشجارها أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخدامًا ونحوه، وقيل: إن تحت عنى جانب كداري تحت دار فلان وضعف كالقول من تحت أوامر أهلها وقيل: منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية كما قيل بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس:
وتحدث الماء الزلال مع الحصى *** فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية كنهر السائل بناءً على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث {تَجْرِى} رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف أولا، ولا والإسناد مجازي، وأل للعهد الذهني قيل: أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء} [محمد: 15] الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي أنهارها وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة.
{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} صفة ثانية لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقًا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لأسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ فأجيب بأن لهم فيها ثمارًا لذيذة عجيبة وأزواجًا نظيفة {وَهُمْ فِيهَا خالدون} وتقدير المبتدأ هو أو هي للشأن أو القصة ليس بشيء بناءً على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لابد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولًا فبين حالها {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج} زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالًا من {الذين} أو من {جنات} لوصفها وهي حينئذٍ حال مقدرة والأصل في الحال المصاحبة، والقول بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، و{كُلَّمَا} نصب على الظرفية بـ {قَالُواْ}، و{رِزْقًا} مفعول ثان لرزقوا كرزقه مالًا أي أعطاه، وليس مفعولًا مطلقًا مؤكدًا لعامله لأنه عنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعًا لذيذًا غير ما تعرفونه، و من الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعًا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو إلى وهما ظرفان مستقران واقعان حالًا على التداخل، وصاحب الأولى: {رِزْقًا} والثانية: ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا مرزوقًا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوًا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل نزلة أن تقول: أعطاني فلان، فيقتل: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن {رُزِقُواْ} جعل مطلقًا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدًا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداءً من غير تبعية.
وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع كالتفاح والرمان لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة من لا جميعه وهو ركيك جدًا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافًا لمن وهم فيه وقع حالًا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرًا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، و{رِزْقًا} مصدر مؤكد أو في موقع الحال من {رِزْقًا} لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزأ لمجرورها لا جزئيًا فتأتي الركاكة ههنا، وجمع سبحانه بين {مِنْهَا} و{مِن ثَمَرَةٍ} ولم يقل من ثمرها بدل ذلك لأن تعلق {مِنْهَا} يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق {مِن ثَمَرَةٍ} يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرًا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب {الذي} إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته.
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره *** هو المسك ما كررته يتضوع
وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسًا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم كما روي عن الحسن: «إن أحدهم يؤتي بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم.
والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن { كلما} تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية عنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته لمتشابها بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه نه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] أي جزاءه فالذي رزقناه مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء كما لا يخفى أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما يشتمل على معناه لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير قد وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرًا الخدم والولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي {وأتوا} على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} إلى قوله سبحانه: {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة: 17 - 20] والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد من قبل في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان: {هذا} و{الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} وهو المرزوق في الدارين أي أوتوا رزق الدارين متشابهًا بعضه بالبعض ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد.
قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثًا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف، ولا يعكر على دعوى متشابه ما في الدارين ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون} صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالإسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض مع إيراده في البعض قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالًا من ضمير الجمع في: لهم والعامل فيها معنى الاستقرار والأزواج جمع قلة وجمع الكثرة زوجة كعود وعودة ولم يكثر استعماله في الكلام، قيل: ولهذا استغنى عنه بجمع القلة توسعًا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معًا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارًا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مطهرة أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم كما روي عن الحسن: «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها.
والتطهير كما قال الراغب يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعًا، فيكون عامًا هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقًا منصرفًا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل، فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي {مطهرات} بناءً على طهرن لا طهرت كما في الأولى ولعلها أولى استعمالًا، وإن كان الكل فصيحًا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجىء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرًا عائدًا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] و{يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجىء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة وصف من طهر بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرًا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟ا وقرأ عبيد بن عمير: {مُّطَهَّرَةٍ} وأصله متطهرة فأدغم، ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم؛ وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل:
أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالًا
أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إنه مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلًا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأبيد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل: البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى: {الأول والآخر} ليس كما في الشاهد بل عنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟ا أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية، تبًا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الكون والفساد؟ا على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرًا مختارًا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلمَ لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلمَ لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائمًا أبدًا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء.


{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
{إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال ثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلًا أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين قالوا لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد والصيب الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال ثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22] أي: لا يستحي أن يضرب مثلًا لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابًا وعقابًا، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه:
وما انفكت الأمثال في الناس سائرة ***
والحياء كما قال الراغب انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في القاموس خجل استحي تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة وللناس في ذلك مذهبان فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، وبعض وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور { يستحيي} بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع، أو العين فالوزن يستفل؟ قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديًا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما.
والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين، وقيل: يضع من {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} [البقرة: 61] و ما اسم عنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضًا كأعطه شيئًا ما والتعظيم كلأمر ما جدع قصير أنفسه والتنويع كاضربه ضربًا ما وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة لما أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من {مَثَلًا} أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول و{مَثَلًا} حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي: ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء. والفاء عنى إلى، أو مفعول ثان؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مثلًا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة وجماعة: {بعوضة} بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبرًا؛ فقيل: مبتدأ محذوف أي هي أو هو بعوضة، والجملة صلة ما على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: ما بناءً على أنها استفهامية مبتدأ، واختار في البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي {بعوضة} جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: {بَعُوضَةً} مبتدأ، و{مَا} نافية والخبر محذوف أي متروكة لدلالة {لاَ يَسْتَحْىِ} عليه.
والبعوضة واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود.
وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل خموش فغلبت، واشتقاقه من البعض عنى القطع {فَمَا فَوْقَهَا} الفاء عاطفة ترتيبية، و{مَا} عطف على {بَعُوضَةً} أو {مَا} إن جعل اسمًا والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وبه قال ابن عباس أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت {مَا} موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد: ما فوقها وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] فافهم.
{فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ} تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ} إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها، وكأنه قيل كما قيل فيضربه {مُّبِينًا فَأَمَّا الذين} الخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبًا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحًا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرًا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبيًا، وفسر سيبويه أما زيد فذاهب هما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك، ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه. ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبًا، وقامت أما ذلك المقام لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة لللازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظًا، وقد يقدم على الفاء كما في الرضى من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذمّ ما لا يخفى.
والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في {أَنَّهُ} للمثل وهو أقرب، أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما مر، وقيل: للقرآن، والحق خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون عنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينها بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال هذا هو الحق أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، و{مّن رَّبّهِمُ} إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، و{مِنْ} لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وا أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه: {نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وقيل: في ذلك مع الإضافة إلى الضمير تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادّة مسدّ مفعولي يعلمون عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي {فَيَعْلَمُونَ} حقيته ثابتة.
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا} لم يقل سبحانه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة.
ومن قال للمسك أين الشذا *** يكذبه ريحه الطيب
قيل: ولم يقل سبحانه هناك {وأما الذين آمنوا فيقولون...} إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن يقولون لا يدل صريحًا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند {فَيَقُولُونَ} إلخ أشمل وأجمع، و{مَاذَا} لها ستة أوجه في استعمالهم:
الأول: أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و ذا عنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناءً على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرًا عن الموصول.
الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهامًا مفعولًا لأراد وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40].
الثالث: أن يجعل ما استفهامية، و ذا صلة لا إشارة ولا موصولة.
الرابع: أن يجعلا معًا موصولًا كقوله: دعى ماذا علمت سأتقيه.
الخامس: أن يجعلا نكرة موصوفة، وقد جوز في المثال.
السادس: أن تكون ما استفهامية، و ذا اسم إشارة خبر له.
والإرادة كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسمًا لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي الخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين أهل الحق وغيرهم في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالمًا بها وا فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذًا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة هذا استحقار للمشار إليه مثلها في: {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 14] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، و{مَثَلًا} نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى والعهدة عليه أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجىء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالًا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلًا أو ممثلًا به أو بضربه.
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين بأما إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقًا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورًا إلى نورهم، والجهل وقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطًا في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحًا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب لماذا ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرًا، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن أرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيًا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: {وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 12] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببًا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة نزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت *** لدى المجد حتى عد ألف بواحد
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} إلخ في موضع الصفة لمثل فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا عترفين بأن هذا المثل يضل الله به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في {بِهِ} للمثل أو لضربه في الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي: {يُضِلَّ} هنا وفيما يأتي و{يَهْدِى} بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في الثلاثة بالبناء للفاعل، ورفعًا للفاسقين خفضهم الله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناءً على قول من جوّزه، وقيل: حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلًا لأنه لا يصح كونه جوابًا وبيانًا، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالًا ابتدائيًا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، و{ الفاسقين} جمع فاسق من الفسق، وهو شرعًا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة.
واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرًا بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي: ولم يسمع الفسق وصفًا للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:
يذهبن في نجد وغور أغائرا *** فواسقا عن قصدها جوائرا
على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبًا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب {الفاسقين} على أنه مفعول {يُضِلَّ} أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدًا، ولا تفريغ كما في قوله:
نجا سالم والنفس منه بشدة *** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت.


{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
{الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع أي أذمّ والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة {أولئك هُمُ الخاسرون} وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد. والنقض فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد كما قال الزمخشري من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله عليه وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذمّ لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكدًا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذٍ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلًا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض ولكل وجهة وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السموات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. و{مِنْ} للابتداء وكون المجرور بها موضعًا انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير كمنحار ويكون مصدرًا عند أبي البقاء والزمخشري كميعاد عنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله:
أكفرًا بعد رد الموت عني *** وبعد عطاءك المائة الرتاعا
ويكون اسم آلة كمحراث ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر عنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافًا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافًا إلى المفعول. وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤل شتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} {مَا} المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال:
الأول: رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان قاله الحسن وفيه استعمال ما لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل.
الثاني: القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر أنها نزلت في المنافقين الثالث: التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض.
الرابع: الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم.
الخامس: الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: {مَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنًا. وهو مصدر في الأصل عنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 79]. و{أَن يُوصَلَ} يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من {مَا} أو من ضميره، والثاني: أولى للقرب ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى.
{وَيُفْسِدُونَ فِي الارض أولئك هُمُ الخاسرون} إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أو بأنهم يرتكبون كل معية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ولعل هذا أولى. وذكر في {الأرض} إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. و{أولئك} إشارة إلى {الفاسقين} [البقرة: 26] باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطيعة بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان رأس المال والربح وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12